Wednesday, July 27, 2011

مراقبة خارجية




تذهب قبل اللجنة بعشر دقائق...تحمل كراسات الاجابة وورقة للغياب ؛ لتسجيل الحضور ..تدخل اللجنة , تجد الطلبة يجلسون في جماعات..يقلبون أوراقا ودفاترا في عجلة من أمرهم ُمحدِثين أصوات عالية ..

ترفع صوتك قليلا وتقول: يلا يا بشمهندسين 4 صفوف

ينقطع ضجيجهم لثوان ويلتفتون اليك ثم يعودوا لتقليب الاوراق غير مبالين بطلبك وكأنك جملة اعتراضية توقفوا عندها لبضع ثوان ثم تابعوا القراءة

تطلب منهم مرة أخري وبصوت أعلي :يلا يابشمهندسين 4 صفوف

..

لايلتفتون اليك ايضا..

تضيف تهديدا الي طلبك مع لهجة صارمة حاسمة هذه المرة وتقول :كله من وقتكوا..مش هااوزع ورق الاجابة غير لما كل الناس تقعد في أماكنها

ينفك عقد الجماعات هذه المرة ويبدأون في التسلل بخفة الي الصفوف حاملين أوراقهم مع استمرارهم في تقليب الصفحات ؛ انها قناعتهم بأن ماسيقرئوه الآن سيأتي في الأمتحان

يأتي ورق الأسئلة وانت بعد لم توزع عليهم كراسات الاجابة

..

تقول لهم بعد ان تظبط الصفوف : اللي معاه حاجة تخص المادة يطلعها بره

.يستجيبون لندائك هذه المرة لأن الوقت قد أزف وبدأ العد التنازلي فعلا وهم يعرفون ان " كله من وقتهم " ولن تأخذك الرحمة بهم في نهاية الوقت وتمده لهم بضع دقائق

تبدأ في توزيع أوراق الاجابة ...يأتي زميلك الآخر لتوه ولم يشاركك نداءاتك العالية المتكررة التي كانت أشبه بكرة تُضَرب في حائط لترتد اليك مرة أخري ..كانوا هم الحائط الذي ارتدت عنه نداءاتك

يقوم زميلك بتوزيع ورق الأسئلة ويقول لهم بصوت عالٍ بعض الشيء :كل واحد يطلع اثبات الشخصية قدامه

ثم يصمت قليلا بينما هم يخرجون اثباتات شخصيتهم ويعود يسأل : حد قاعد مامعهوش اثبات الشخصية بتاعه..

لا يصله رد فيعتبر ذلك اجابة منهم أن الجميع معه اثبات الشخصية

تمر عليهم انت وزميلك طالبا طالبا لمراجعة البيانات التي علي اثبات الشخصية بالبيانات التي دونوها علي كراسة الاجابة

طالب , اثنان , والثالث لا تجد أمامه اثبات شخصيته..

تطلب منه بهدوء :اثبات الشخصية يا بشمهندس..

فيخرجه..تستعجب ..لقد طلبت من الجميع اخراج اثبات شخصيتهم امامهم فاستجاب البعض بينما لم يستجب البعض الآخر , اكان ذلك تطنيشا منهم ام كسلا ربما كنت تحدث نفسك وانت تطلب منهم ذلك فلم يسمعوك

تصل الي ذلك الطالب الذي لايحمل اي اثبات شخصية..يخبرك انه قد نسي بطاقته

تقول له وقد بدأ دمك يفور لكنك تتجاهل هذا الفوران :هو احنا مش قولنا اللي مامعهوش اثبات شخصية يتكلم

يرد الطالب عليك بهمهمات

تقول وقد زاد فوران دمك : مين تاني يابشمهندسين مامعهوش اثبات شخصية

لايتلفت اليك أحد كالعادة

توجه كلامك له وحده وتقول :اكتب علي الكراسة بدون اثبات شخصية وبكرة في الكنترول تجبهولهم

تتابع المرور علي باقي الطلبة حتي نتهي منهم جميعا...

تمر علي الحوائط فتجد كلاما كثيرا مكتوبا ..بعضه له علاقة بالمادة التي يمتحنوها الآن والبعض الآخر ليس له علاقة..تبدأ جاهدا انت وزميلك في ازالة آثار هذا الكلام..

يستغلون انشغالكما ويبدأون في الكلام..الآن فقط ظهر لهم صوت..انت منذ دخلت عليهم قبل بدء الامتحان بعشر دقائق وانت لم تسمع لهم صوت وكأنهم اتخذوا من الصمت منهجا ومنهاجا..

يقول زميلك: امنع الكلام يا بشمهندسين وبعدين..

يعودوا يلتزموا الصمت مرة أخري..لم تمر بضع دقائق حتي انهالوا عليك بالأسئلة فهم يريدون تفسيرا وشرحا لكل سؤال في ورقة الأسئلة واذا قمت بالرد عليهم وجدت شلالات من الاسئلة تتدفق ولا تنتهي ابدا ...انهم يفسرون الأسئلة بأسئلة وكلما قمت بتوضيح اسئلتهم وضعوك امام اسئلة جديدة تزيد الأمر صعوبة وتعقيدا..

تتذكر قوم بني اسرائيل عندما طلب منهم سيدنا موسي أن يذبحوا بقرة فاانهالوا عليه بأسئلة من كل حدب وصوب عن هذه البقرة..فتشفق علي سيدنا موسي ..لكنك تتذكر أنه نبي وأن الله منحه قدرة الصبر علي هذا الابتلاء..صحيح أنهم لا يشبهون بنو اسرائيل الا في هذه النقطة فقط لكنك لست نبي ولا طاقة لك بتحمل كل هذه الاسئلة

.تجد لنفسك مخرجا من هذه الأسئلة –عندما تكتشف ان اسئلتهم هذه ماهي الا لاستدراجك ليصلوا بك في النهاية الي الاجابة- وتقول : ماحدش يسألني في حاجة ..انا مش معيد المادة

عندما لا يجدوا منك جدوي, يبدأون في ممارسة طقوسهم الغريبة والطريفة في الغش , كأنهم مثلا يلتفتون لمن خلفهم..منذ ان كنت طالبا وأنت تعرف أن الغش المتعارف عليه يكون ممن يجلس أمامك وليس ممن خلفك لأن هذا لا يلفت الانتباه..الدوران للخلف يلفت الانتباه اكثر..

او ان تجد أحدهم يمد برأسه وجسمه الي الامام يحاول النظر في كراسة اجابة طالب يتقدمه بفين او ثلاثة صفوف متجاهلا الغش من طالب امامه مباشرة او طالب الي جواره...تشعر انهم يتعمدون لفت الانتباه اليهم فتبتسم له وتقول : كدا عينيك جايبة الكلام يعني...

ينظر اليك ويرد بابتسامة ويقول : مابغشش علي فكرة

تبدأ في تضييق الخناق عليهم انت وزميلك لكنهم لا يستسلمون ومايزيدهم ذلك الا اصرارا علي مواصلة طريقهم مطبقين المقولة التي تقول "اطلبوا العلم ولو في الصين" بكل حذافيرها...

تبدأ عناصر الشغب تكشف عن نفسها تنظر لهم فيبتسمون لك ابتسامة يكسوها بعض الحرج أنهم لن يكرروا هذا الفعل مرة أخري..لكنهم لا يفعلون فتغير أماكنهم وتُجلسهم في الصفوف الأمامية يعترضوا في البداية لكنهم في النهاية يمتثلون لطلبك

تجد البعض ينظر لك طوال اللجنة بابتسامة ..هو لايفعل شيئا سوي ابتسامة تنم عن نية خفية يضمرها بداخله تتعلق بشأن انتظاره اللحظة المناسبة لاخراج البرشامة التي معه..

يمر الوقت بطئيا جدا وكأن الدقيقة صارت مائة ثانية والساعة صارت مائة دقيقة....

يوشك الوقت علي الانتهاء تقول بصوت عالٍ: كل واحد يجهز ورقته قدامه الوقت خلص

لا يلتفت احد اليك حتي صاحب الابتسامة التي كان يلاحقك بها تخلي عنها وعاد يكتب في كراسة الاجابة وكأنه تذكر فجأة أن هناك امتحانا يجب ان يؤديه

تمر عليهم لتأخذ كراسات الاجابة فيطلبون ثوان اضافية لكنك ترفض

يقولون لك أحدهم : طيب حضرتك لم من الباقي وخليني في الآخر ..

لا تستجيب لطلبه لأن هذا يعني ان اللجنة كلها هاتفضل للآخر

بعد عناء تقوم بجمع كراسات الاجابة وكأنك كنت تنتزع صيدا ثمينا من فك الأسد

Monday, July 4, 2011

أجل غير مُسمي


كانت ملامحه بسيطة لم يكن بها شيء يلفت النظر سوي ذقنه التي طالت وكبرت الي الحد الذي يسمح له بتقبيلها....يرتدي جلبابا أبيض قصير يمتد أسفل الركبة بشبر أو أكثر من الشبر بقليل وسروال قصير يعلو قدميه بعدة سنتيمترات ..حذاؤه أسود اللون مفتوح من الأمام بحيث يظهر جميع أصابع الرجل ومفتوح من الخلف ايضا حيث يبدو الكعب أبيض تخالطه حمرة متفرقة ...شعره أسود لامع تماما مثل حذاؤه

كان شابا في منتصف العشرينات يأتي ليؤدي امتحان نهاية كل فصل دراسي , يرافقه اثنان من ضباط الشرطة بزيهم الأسود وكأنهم اختاروا لزيهم لونا غير الأبيض حتي لا يلتبس الأمر علي الآخرين وكأن اللون الأبيض قد صار جرما وافكا .. كل منا يرتدي ما يناسبه وما يعبر عنه

كان قدومه حافلا يترقبه الجميع في اهتمام وشغف ...فحياة الناس هناك مملة رغم أحداث حياتهم اليومية الصاخبة..لكن هذه الأحداث الصاخبة يحفظونها عن ظهر قلب حتي باتت لا تثير فيهم أي حماس أو رغبة في عمل شيء جديد…ربما كانوا هم أيضا أكثر مللا من حياتهم

يلتفت اليه الجميع لكنه لا يلتفت الي احد ..يمشي مطرقا رأسه في الأرض ...يقبل ذقنه ويتمتم ببعض الكلمات تستطيع بسهولة أن تعرف أنها استغفار وتسبيح

كان قد انضم الي جماعة الاخوان المسلمين فتم اعتقاله وتسجيله كعضو نشط في الجماعة مما يعني انه يهدد الأمن العام للبلاد وهذا يقتضي اعتقاله لأجل غير مسمي

يتأسف الجميع عليه وعلي شبابه الذي تنفرط حباته علي مدار السنين

لم تكن له اي توجهات سياسية أو أخوانية فيما مضي لكنه التخبط كان يعتقد ان هذه الجماعة بحوزتها الهداية والرشاد وكان بحاجة الي ان يعود الي الله فاانضم اليهم ونسي ان الدين والهداية نحصل عليهم بالرجوع الي الله وليس الي الجماعة..ربما ادرك خطأه هذا ولكن بعد اعتقاله

كنت اتسائل اليس هناك ثمة استئناف أو نقض لهذه التهمة التي الحقوه بها ...لكني عرفت انها قضية امن دولة ولا سبيل لخروج أمثاله من السجن الا بعد ان يمتص العمر رحيق شبابهم وعنفوانهم في الحياة...اي دولة هذه الذي يهدد امنها شاب يبحث عن الهداية

ربما كانت سياستهم "اضرب المربوط فيخاف السايب"

هو يعرف انه لن يعود الي الحياة والشوارع والناس الا بعدما ينقضي هذا الاجل الغير مسمي لكنه رغم ذلك يأتي ليؤدي امتحانات نهاية السنة الدراسية كل عام بانتظام ...يجتاز بعضها ويرسب في البعض الآخر.. لكنه يأتي

هل لأن خروجه لأداء الامتحانات فرصة جيدة ليعانق أشعة الشمس بحرية من دون جدران او نوافذ ام ليري وجوه الناس الحرة فيفيضوا عليه من حريتهم هذه فيشعر ولو لسويعات أنه حر...

الناس لم يكونوا احرار ولم تكن وجوههم حرة ..بل كانت اشعة الشمس هي الحرة ...لقد كانوا يعيشون تحت وطأة الغلاء والمرض والفقر لكنهم علي كل حال أفضل منه لأنهم يجوبون الشوارع والطرقات بحرية وهو يجوب زنزانته وطرقات سجن مظلم وكئيب بخوف وانكسار

ام انه الأمل الذي تمخض من ايمانه وثقته بالله بأن هناك يوما سوف يأتي وعن قريب يعود فيه الي العالم وينعم بمباهجه وأفراحه

يخرج شبابا في عمر الزهور مثله ينادون باسقاط النظام ويسخر منهم من لم يشاركهم هتافهم ثم تدب الفوضي أرجاء البلاد وينادي الجميع هؤلاء الشباب أن يكفوا عن الصراخ ..هكذا رأوا ثورتهم صراخا...لكن لا شيء يزعزع ثقتهم في الله وفي أنفسهم, يواصلوا هتافهم وتزداد اعدادهم بعدما رحل عنهم رفاقهم وماتوا في سبيل الله والوطن امام اعينهم...وتحقق الثورة مبتاغها ويتنحي من كانت بيده مقاليد الأمور ويسقط من بعده رؤوس الأفاعي التي كانت تبخ سمومها في البلاد....يداعبه الأمل أنه سيخرج من هنا عما قريب

تهدأ الثورة ولا يخرج من المعتقل , يهدأ أمله لكنه لا يموت

بعد أيام قليلة تعود الثورة ترسم ملمحا جديدا لها وتحترق مباني أمن الدولة... يتم العفو عن المعتقلين ويخرجون جميعا وهو معهم....يحتضن الكون ويعانق السماء ويقبل الأرض ...لا يصدق ان هذا الأجل الذي لم يجدوا له اسما وهم يصدرون امر اعتقاله أنه سينقضي بهذه السرعة

...ثلاث سنوات قضاها في المعتقل يزداد يقينه في الله يوما تلو الآخر أن هذا الأجل الغير مسمي سيصير له اسما يوما ما وسيخرج من هذه الجدران للهواء والشمس